فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{تبارك الّذِي بِيدِهِ الْمُلْكُ وهُو على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ (1)}
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه معنى تبارك، وذكر أقوال المفسرين واختلافهم في معناها. ورجّح أنه بحسب اللغة والاشتقاق أنه تفاعل من البركة، والمعنى: تكاثرت البركات والخيرات من قبله، وهذا يستلزم عظمته وتقديسه.. إلخ.
ثم ذكر تنبيها في عدم تصريفها واختصاصها بالله تعالى. وإطلاق العرب إياها على الله تعالى.
وقال في إملائه: الذي بيده الملك. أي نفوذ المقدور في كل شيء يتصرف في كل شيء بما يشاء لا معقب لحكمه اه.
والتقديم للموصول وصلته هنا بالصفة الخاصة به تعالى، وهي قوله تعالى: {تبارك} يدل على عظمة الموصول.
ويدل له قوله تعالى: {فسُبْحان الذي بِيدِهِ ملكُوتُ كُلِّ شيْءٍ وإِليْهِ تُرْجعُون} [يس: 83]، لأن التقديم بالتسبيح وهو التنزيه يساوي التقديم بقوله تعالى: {تبارك}، والموصول بعد التسبيح بصلته كالموصول بعد تبارك وصلته سواء بسواء، وهذا يؤيد ما ذكره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه. والله أعلم.
وقد تقدمت الإشارة إلى الفرق بين الملك والمالك عند قوله تعالى: {الملك القدوس المؤمن} [الحشر: 23]، وهنا تجتمع الصفتان، فالذي بيده الملك وملكوت كل شيء هو المالك له الملك عليه، وهو رب العالمين سبحانه.
قوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة لِيبْلُوكُمْ أيُّكُمْ أحْسنُ عملا}.
قدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه معنى هذه الآية الكريمة بما يوضحها من الآيات عند الكلام على قوله تعالى: {وما خلقْتُ الجن والإنس إِلاّ لِيعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقبلها في سورة هود على قوله تعالى: {لِيبْلُوكُمْ أيُّكُمْ أحْسنُ عملا} [هود: 7].
وقال رحمه الله في إملائه: جعل للعالم موتتين وإحياءتين، وبينه بقوله تعالى: {كيْف تكْفُرُون بالله وكُنْتُمْ أمْواتا فأحْياكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] الآية.
والآية تدل عن أن الموت أمر وجودي لا عدمي كما زعم الفلاسفة، لأنه لو كان عدميا، لما تعلق به الخلق.
لى: {الذي خلق سبْع سماواتٍ طِباقا مّا ترى فِي خلْقِ الرحمن مِن تفاوُتِ} الآية.
ذكر خلق السماوات السبع الطباق على هذا النحو دون تفاوت أو فطور بعد ذكر أول السورة، يدل على أن خلق هذه السبع من كمال قدرته.
وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، الحكمة في خلق السماوات والأرض ضمن تنبيه عقده في أواخر سورة الذاريات.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه معنى الآية الكريمة، والآيات الموضحة لها عند الكلام على أول سورة ق عند قوله تعالى: {أفلمْ ينظروا إِلى السماء فوْقهُمْ كيْف بنيْناها وزيّنّاها وما لها مِن فُرُوجٍ} [ق: 6] قال في إملائه: إن قوله تعالى في خلق الرحمن عام في جميع مخلوقاته، من معنى الاستواء والحكمة والدقة في الصنع، وتدخل السماوات في ذلك بدليل قوله تعالى: {صُنْع الله الذي أتْقن كُلّ شيْءٍ} [النمل: 88] وإتقان كل شيء بحسبه، كما ي قوله: {قال ربُّنا الذي أعطى كُلّ شيءٍ خلْقهُ ثُمّ هدى} [طه: 50].
وقوله: {الذي أحْسن كُلّ شيْءٍ خلقهُ} [السجدة: 7].
وبدأ خلق الإنسان من طين، وهذا الحال للسماء في الدنيا فقط، وستنفطر يوم القيامة، كما في قوله تعالى: {إِذا السماء انفطرت} [الأنفطار: 1] {إِذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] {ويوْم تشقّقُ السماء بالغمام} [الفرقان: 25] ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {فارجع البصر هلْ ترى مِن فُطُورٍ}.
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك عند قوله تعالى: {وجعلْنا السماء سقْفا مّحْفُوظا} [الأنبياء: 32] في سورة الأنبياء.
وعند قوله: {أفلمْ ينظروا إِلى السماء فوْقهُمْ} [ق: 6] في سورة ق.
ولعل مجيء هذه الآية بعد {لِيبْلُوكُمْ أيُّكُمْ أحْسنُ عملا} [الملك: 2] توجيه إلى حسن صنع الله وإبداعه في خلقه {مّا ترى فِي خلْقِ الرحمن مِن تفاوُت} [الملك: 3].
{ثُمّ ارْجِعِ الْبصر كرّتيْنِ ينْقلِبْ إِليْك الْبصرُ خاسِئا وهُو حسِيرٌ (4)}
المصنوص هنا إرجاع البصر كرتين، ولكن حقيقة النظر أربع مرات.
الأولى في قوله: {مّا ترى فِي خلْقِ الرحمن مِن تفاوُتٍ} [الملك: 3].
والثانية في قوله: {فارجع البصر هلْ ترى مِن فُطُورٍ} [الملك: 3].
والثالث والرابعة في قوله: {ثُمّ ارجِعِ البصر كرّتيْن} [الملك: 4].
وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد، والحسير: العي الكليل اعاجز المتقطع دون غاية، كما في قول الشاعر:
من مد طرفا إلى ما فوق غايته ** ارتد خسآن من الطرف قد حسرا

وقال القرطبي: يقال قد حسر بصره يحسر حسورا، أي كل وانقطع نظره من طول مدى، وما أشبه ذلك فهو حسير ومحسور أيضا.
قال:
نظرت إليها بالمحصب من منى ** فعاد إلي الطّرف وهو حسير

{ولقدْ زيّنّا السّماء الدُّنْيا بِمصابِيح وجعلْناها رُجُوما لِلشّياطِينِ وأعْتدْنا لهُمْ عذاب السّعِيرِ (5)}
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان زينة السماء بالمصابيح، وجعلها رجوما للشياطين بيانا كاملا عند قوله تعالى: {ولقدْ جعلْنا فِي السماء بُرُوجا وزيّنّاها لِلنّاظِرِين وحفِظْناها مِن كُلِّ شيْطانٍ رّجِيمٍ إِلاّ منِ استرق السمع فأتْبعهُ شِهابٌ مُّبِينٌ} [الحجر: 16- 18].
وقد ذكر طرفا من هذا البحث في سورة الفرقان لابد من ضمه إلى هذا المبحث هناك لارتباط بعضها ببعض.
تنبيه:
فقد ظهرت تلك المخترعات الحديثة ونادى أصحاب النظريات الجديدة والناس ينقسمون إلى قسمين: قسم يبادر بالإنكار وآخر يسارع للتصديق، وقد يستدل كل من الفريقين بنصوص من القرآن أو السنة، ولعل من الأولى أن يقال: إن النظريات الحديثة قسمان: نظرية تتعارض مع صريح القرآن، فهذه مردودة بلا نزاع كنرية ثبوت الشمس مع قوله تعالى: {والشمس تجْرِي لِمُسْتقرٍّ لّها} [يس: 38].
ونظرية لا تتعارض مع نص القرآن ولم ينص عليها، وليس عندنا من وسائل العلم ما يؤيدها ولا يرفضها.
فالأولى أن يكون موقفنا موقف التثبت ولا نبادر بحكم قاطع إيجابا أو نفيا، وذلك أخذا من قضية الهدهد وسبأ مع نبي الله سليمان لما جاء يخبرهم. وكان عليه السلام لم يعلم عنهم شيئا فلم يكذب الخبر بكونه من الهدهد ولم يصدقه لأنه لم يعلم عنهم سابقا، مع أنه وصف حالهم وصفا دقيقا.
وكان موقفه عليه السلام موقف التثبت مع ما لديه من إمكانيات الكشف والتحقيق من الريح والطير والجن، فقال للمخبر وهو الهدهد: سننظر، أصدقت أم كنت من الكاذبين.
ونحن في هذه الآونة لسنا أشد إمكانيات من نبي الله سليمان آنذاك، وليس المخبرون عن مثل هذه النظريات أقل من الهدهد. فليكن موقفنا على الأقل موقف من سينظرأيصدق الخبر أم يظهر كذبه؟
والغرض من هذا التنبيه هو ألا نحمل لفظ القرآن فيما هو ليس صريحا فيه ما لا يحتمله، ثم يظهر كذب النظرية أو صدقها، فنجعل القرآن في معرض المقارنة مع النظريات الحديثة، والقرآن فوق ذلك كله {لاّ يأْتِيهِ الباطل مِن بيْنِ يديْهِ ولا مِنْ خلْفِهِ تنزِيلٌ مِّنْ حكِيمٍ حمِيدٍ} [فصلت: 42].
قوله تعالى: {ولقدْ زيّنّا السماء الدنيا} فالدنيا تأنيث الأدنى أي السماء الموالية للأرض، ومفهومه أن بقية السماوات ليست فيها مصابيح التي هي النجوم والكواكب كما قال: {بِزِينةٍ الكواكب} [الصافات: 6] ويدل لهذا المفهوم ما جاء به عن قتادة: أن الله جعل النجوم لثلاثة أمور. أمران هنا، وهما زينة السماء الدنيا ورجوما للشياطين. والثالثة علامات واهتداء في البر والبحر، وهذه الأمور الثلاثة تتعلق بالسماء الدنيا. لأن الشياطين لا تنفذ إلى السماوات الأخرى لأنها أجرام محفوظة، كما في حديث الإسراء «لها أبواب وتطرق ولا يدخل منها إلا بإذن».
وكقوله: {إِنّ الذين كذّبُواْ بِآياتِنا واستكبروا عنْها لا تُفتّحُ لهُمْ أبْوابُ السماء}
[الأعراف: 40].
وكذلك ليس هناك من يحتاج إلى اهتداء بها في سيره لأن الملائكة كل في وضعه الذي أوجده الله عليه لأن الزينة لن ترى لوجود جرم السماء الدنيا، فثبت أن النجوز خاصة بالسماء الدنيا.
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله تعالى: {إِنّا زيّنّا السماء الدنيا بِزِينةٍ الكواكب وحِفْظا مِّن كُلِّ شيْطانٍ مّارِدٍ} [الصافات: 6- 7].
ومفهوم الدنيا عدم وجودها فيما بعدها، ولا وجود للشيطان في غير السماء الدنيا.
وقوله تعالى: {وجعلْناها رُجُوما لِّلشّياطِينِ}، وهي الشهب من النار، والشهب النار، كما في قوله: {أوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قبسٍ لّعلّكُمْ تصْطلِون} [النمل: 7]، والرجوم والشهب هي التي ترمي بها الشياطين عند استراق السمع، كما في قوله تعالى: {فمن يسْتمِعِ الآن يجِدْ لهُ شِهابا رّصدا} [الجن: 9].
وقوله: {إِلاّ منْ خطِف الخطفة فأتْبعهُ شِهابٌ ثاقِبٌ} [الصافات: 10].
وهنا سؤال، وهو إذا كان الجن من نار، كما في قوله: {وخلق الجآن مِن مّارِجٍ مِّن نّارٍ} [الرحمن: 15]، فكيف تحرقه النار؟
فأجاب عنه الفخر الرازي بقوله: إن النار يكون بعضها أقوى من بعض، فالأقوى يؤثر على الأضعف، ومما يشهد لما ذهب إليه قوله تعالى بعده {وأعْتدْنا لهُمْ عذاب السّعِيرِ} والسعير: أشد النار.
ومعلوم أن النار طبقات بعضها أشد من بعض، وهذا أمر ملموس، فقد تكون الآلة مصنوعة من حديد وتسلط عليها آلة من حديد أيضا، أقوى منها فتكسرها.
كما قيل: لا يفل الحديد إلا الحديد، فلا يمنع كون أصله من نار ألا يتعذب بالنار، كما أن أصل الإنسان من طين من حمإٍ مسنون، ومن صلصال كالفخّار، وبعد خلقه فإنه لا يحتمل التعذيب بالصلصال ولا بالفخار، فقد يقضي عليه بضربة من قطعة من فخّار، والعلم عند الله.
{إِذا أُلْقُوا فِيها سمِعُوا لها شهِيقا وهِي تفُورُ (7) تكادُ تميّزُ مِن الْغيْظِ كُلّما أُلْقِي فِيها فوْجٌ سألهُمْ خزنتُها ألمْ يأْتِكُمْ نذِيرٌ (8)}
قوله تعالى: {إِذآ أُلْقُواْ فِيها سمِعُواْ لها شهِيقا وهِي تفُورُ تكادُ تميّزُ مِن الغيْظِ}.
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه في هذه الآية: إثبات أن للنار حسا وإدراكا وإرادة، والقرآن أثبت للنار أنها تغتاظ وتبصر وتتكلم وتطلب المزيد، كما قال هنا: {تكادُ تميّزُ مِن الغيْظ}.
وقال: {إِذا رأتْهُمْ مِّن مّكانٍ بعِيدٍ سمِعُواْ لها تغيُّظا وزفِيرا} [الفرقان: 12].
وقال: {يوْم نقول لِجهنّم هلِ امتلأت وتقول هلْ مِن مّزِيدٍ} [ق: 30] قوله تعالى: {كُلّما أُلْقِي فِيها فوْجٌ سألهُمْ خزنتُهآ}.
بين تعالى أن للنار خزنة، وقد بين تعالى ان هؤلاء الخزنة هم الملائكة الموكلون بالنار، كما في قوله تعالى: {عليْها ملائِكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاّ يعْصُون الله مآ أمرهُمْ ويفْعلُون ما يُؤْمرُون} [التحريم: 6].
كما بين عدتهم في قوله تعالى: {عليْها تِسْعة عشر} [المدثر: 30].
وقال: {وما جعلْنآ أصْحاب النار إِلاّ ملائِكة وما جعلْنا عِدّتهُمْ إِلاّ فِتْنة لِّلّذِين كفرُواْ} [المدثر: 31].
وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: دلت هذه الآية على أن أهل النار يدخلونها جماعة بعد جماعة، كما في قوله تعالى: {كُلّما دخلتْ أُمّةٌ لّعنتْ أُخْتها} [الأعراف: 38].
قوله تعالى: {ألمْ يأْتِكُمْ نذِيرٌ}.
قال رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: هذا سؤال الملائكة لأهل النار، والنذير بمعنى المنذر، فهو فعيل بمعنى مفعل، وإن ذكر عن الأصمعي إنكاره ونظيره من القرآن: بديع السماوات: بمعنى مبدع، وأليم: بمعنى مؤلم.
ومن كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانه الداعي السميع ** يؤرقني وأصحابي هجوع

فالسميع بمعنى المسمع.
وقول غيلان:
ويرفع من صدور شمردلات ** يصد وجوهها وهج أليم

أي مؤلم، والإنذار إعلام مقترن بتخويف.
وقال: وهذه الآية تدلعلى أن الله تعلاى لا يعذب بالنار أحدا إلا بعد أن ينذره في الدنيا، وقد بين هذا المعنى بأدلته بتوسع عند قوله تعالى: {وما كُنّا مُعذِّبِين حتى نبْعث رسُولا} [الإسراء: 15]، وساق هذه الآية هناك.
{قالوا بلى قدْ جاءنا نذِيرٌ فكذّبْنا وقُلْنا ما نزّل اللّهُ مِنْ شيْءٍ إِنْ أنْتُمْ إِلّا فِي ضلالٍ كبِيرٍ (9)}
قوله تعالى: {قالواْ بلى قدْ جاءنا نذِيرٌ}.
قد اعتفوا بمجيء النذير إليهم.
وقد بين تعالى ذلك في قوله: {وإِن مِّنْ أُمّةٍ إِلاّ خلا فِيها نذِيرٌ} [فاطر: 24].
{وقالوا لوْ كُنّا نسْمعُ أوْ نعْقِلُ ما كُنّا فِي أصْحابِ السّعِيرِ (10)}
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: أي قال أهل النار: لو كنا نسمع من يعقل عن الله حججه أو نعقل حجج الله ما كنا في أصحاب السعير، أي النار، فهم يسمعون، ولكن لا يسمعون ما ينفعهم في الآخرة، ويعقلون ولكن لا يعقلون ما ينفعهم في الآخرة، لأن الله قال: {ختم الله على قُلُوبِهمْ وعلى سمْعِهِمْ} [البقرة: 7].
وقال: {إِنّا جعلْنا على قُلُوبِهِمْ أكِنّة أن يفْقهُوهُ وفِي آذانِهِمْ وقرأ} [الكهف: 57].
وقد بين هذا الذي ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه عدة نصوص صريحة في ذلك، منها أصل خلقتهم الكاملة في قوله تعالى: {إِنّا خلقْنا الإنسان مِن نُّطْفةٍ أمْشاجٍ نّبْتلِيهِ فجعلْناهُ سمِيعا بصِيرا} [الإنسان: 2].
وفي آخر سورة الملك هذه قوله: {قُلْ هُو الذي أنشأكُمْ وجعل لكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قلِيلا مّا تشْكُرُون} [الملك: 23].
ولكنهم سمعوا وعصوا، كما في قوله: {سمِعْنا وعصيْنا وأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93].
وهذا، وإن كان في بني إسرائيل، إلا أنه قال لهذه الأمة: {ولا تكُونُواْ كالّذِين قالوا سمِعْنا وهُمْ لا يسْمعُون} [الأنفال: 21].
وقال تعالى عنهم: {قالواْ قدْ سمِعْنا لوْ نشاءُ لقُلْنا مِثْل هذا} [الأنفال: 31].
وقوله عنهم: {وقال الذين كفرُواْ لا تسْمعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] وقد بين تعالى سبب عدم استفادتهم بما يسمعون في قوله تعالى: {ويْلٌ لِّكُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ يسْمعُ آياتِ الله تتلى عليْهِ ثُمّ يُصِرُّ مُسْتكْبِرا كأن لّمْ يسْمعْها فبشِّرْهُ بِعذابٍ ألِيمٍ وإِذا علِم مِنْ آياتِنا شيْئا اتخذها هُزُوا} [الجاثية: 7- 9].
وقوله: {وإِذا تتلى عليْهِ آياتُنا ولى مُسْتكْبِرا كأن لّمْ يسْمعْها} [لقمان: 7].
فقولهم هنا: {لوْ كُنّا نسْمعُ أوْ نعْقِلُ} أي سماع تعقل وتفهم.
{فاعْترفُوا بِذنْبِهِمْ فسُحْقا لِأصْحابِ السّعِيرِ (11)}
قال رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: الاعتراف الإقرار، أي أقروا بذنبهم يوم القيامة حيث لا ينفع الإقرار والندم، وتقدم له رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان انتفاع الكفار بإقرارهم هذا بتوسع عند قوله تعالى: {يوْم يأْتِي تأْوِيلُهُ يقول الذين نسُوهُ مِن قبْلُ قدْ جاءتْ رُسُلُ ربِّنا بالحق فهل لّنا مِن شُفعاء فيشْفعُواْ لنآ أوْ نُردُّ فنعْمل غيْر الذي كُنّا نعْملُ} [الأعراف: 53].
واستدل بهذه الآية، آية الملك هناك.
والظاهر أن الأصل في ذلك كله أن اعترافهم وإيمانهم بعد فوات الأوان بالمعاينة، كما جاء في حق فرعون في قوله تعالى: {حتى إِذآ أدْركهُ الغرق قال آمنتُ أنّهُ لا إله إِلاّ الذي آمنتْ بِهِ بنوا إِسْرائِيل وأناْ مِن المسلمين} [يونس: 90]، فقيل له: {آلآن وقدْ عصيْت قبْلُ وكُنت مِن المفسدين} [يونس: 91].
وجاء أصرح ما يكون في قوله: {يوْم يأْتِي بعْضُ آياتِ ربِّك لا ينفعُ نفْسا إِيمانُها لمْ تكُنْ آمنتْ مِن قبْلُ أوْ كسبتْ في إِيمانِها خيْرا} [الأنعام: 158].
فلما جاء بعض آيات الله وظهر الحق، لم يكن للإيمان محل بعد المعاينة {لا ينفعُ نفْسا إِيمانُها} أي من قبل المعاينة كحالة فرعون المذكورة، لأن حقيقة الإيمان التصديق بالمغيبات، فإذا عاينها لم تكن حينذاك غيبا، فيفوت وقت الإيمان والعلم عند الله، وعليه حديث التوبة: ما لم يغرغر.
{إِنّ الّذِين يخْشوْن ربّهُمْ بِالْغيْبِ لهُمْ مغْفِرةٌ وأجْرٌ كبِيرٌ (12)}
الخشية: شدة الخوف، كما قال تعالى: {الّذِين يخْشوْن ربّهُمْ بالغيب وهُمْ مِّن الساعة مُشْفِقُون} [الأنبياء: 49].
وبين تعالى محل تلك الخشية في قوله: {إِنّما يخْشى الله مِنْ عِبادِهِ العلماء} [فاطر: 28] لأنهم يعرفون حق الله تعالى ويراقبونه.
وقد بين تعالى حقيقة خشية الله: {وإِنّ مِن الحجارة لما يتفجّرُ مِنْهُ الأنهار وإِنّ مِنْها لما يشّقّقُ فيخْرُجُ مِنْهُ الماء وإِنّ مِنْها لما يهْبِطُ مِنْ خشْيةِ الله} [البقرة: 74].
وقوله: {لوْ أنزلْنا هذا القرآن على جبلٍ لّرأيْتهُ خاشِعا مُّتصدِّعا مِّنْ خشْيةِ الله} [الحشر: 21].
فالذين يخشون ربهم بالغيب هم الذين يعرفون حق الله عليهم ومراقبته إياهم في السر والعلن، ويعلمون أنه مطلع عليهم مهما تخسفوا وتستروا وهم دائما منيبون إلى الله، كما في قوله: {هذا ما تُوعدُون لِكُلِّ أوّابٍ حفِيظٍ مّنْ خشِي الرحمن بالغيب وجاء بِقلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق: 32- 33]، وهذه أعلى درجات السلوك مع الله تعالى، كما بين أنها منزلة العلماء.
وقد عاب تعالى أولئك الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، ويخشون الناس ولا يخشون الله، فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين.
وإفراد الله بالخشية منزلة الأنبياء، كما في قوله: {الذين يُبلِّغُون رِسالاتِ الله ويخْشوْنهُ ولا يخْشوْن أحدا إِلاّ الله وكفى بالله حسِيبا} [الأحزاب: 39].
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه: والعرب تمدح من يكون في خلوته كمشهده مع الناس.
ومنه قول مسلم بن الوليد:
يتجنب الهفوات في خلواته ** عف السريرة غيبه كالمشهد

والواقع أن هذه الصفة، وهي خشية الله بالغيب والإيمان بالغيب أساس عمل المسلم كله، ومعاملاته، لأنه بإيمانه بالغيب سيعمل كل خير طمعا في ثواب الله، كما في مستهل المصحف {الم ذلِك الكتاب لا ريْب فِيهِ هُدى لِّلْمُتّقِين الذين يُؤْمِنُون بالغيب} [البقرة: 1- 3] الآية.
وبمخافة الله بالغيب سيتجنب كل سوء، فيسلم ويتحصل له ما قال الله تعالى عنهم: {مّغْفِرةٌ وأجْرٌ كبِيرٌ}، مغفرة من ذنوب {وأجْرٌ كبِيرٌ} على أعماله، رزقنا الله خشيته في السر والعلن.
وليعلم أن المراد بالغيب مما هو من جانب العبد لا سيده، كما في الحديث في الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وهذا الإحساس هو أقوى عامل على اكتساب خشية الله سبحانه.
{وأسِرُّوا قولكُمْ أوِ اجْهرُوا بِهِ إِنّهُ علِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) ألا يعْلمُ منْ خلق وهُو اللّطِيفُ الْخبِيرُ (14)}
فيه دلالة على أن السر والجهر عند الله وفي علم الله على حد سواء، لأنه عليم بذات الصدور يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقوله تعالى: {سواءٌ مِّنْكُمْ مّنْ أسرّ القول ومنْ جهر بِهِ} [الرعد: 10].
وقوله: {وإِن تجْهرْ بالقول فإِنّهُ يعْلمُ السر وأخْفى} [طه: 7].
وتقدم للشيخ عند كل من الآيتين بيان هذه الآية.
وقد تقدم قوله تعالى: {قدْ سمِع الله قول التي تُجادِلُك فِي زوْجِها وتشتكي إِلى الله} [المجالة: 1] الآية.
وقوله تعالى: {ولقدْ خلقْنا الإنسان ونعْلمُ ما تُوسْوِسُ بِهِ نفْسُهُ} [ق: 16] الآية.
وتقدم في سورة التحريم قبل هذه السورة مباشرة قوله تعالى: {وإِذ أسرّ النبي إلى بعْضِ أزْواجِهِ حديثا فلمّا نبّأتْ بِهِ وأظْهرهُ الله عليْهِ} [التحريم: 3] الآية، ففيه بيان عملي مشاهد بأنه تعالى يعلم السر وأخفى، ولذا قال تعالى هنا {ألا يعْلمُ منْ خلق وهُو اللطيف الخبير} [الملك: 14].
كما قال في سورة التحريم: {قالتْ منْ أنبأك هذا قال نبّأنِي العليم الخبير} [التحريم: 3].
وقال القرطبي نقلا عن أبي إسحاق الإسفرائيني: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم منها العليم، ومعناه تفهيم جميع المعلومات، ومنها الخبير، ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون، ومنها الحكيم ويختص بأنه يعلم دقائق الأوصاف، ومنها الشهيد ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر، ومعناه ألا يغيب عنه شيء. ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى، ومنها المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النهار واشتداد الريح وتساقط الأرواق، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال: {ألا يعْلمُ منْ خلق وهُو اللطيف الخبير} [الملك: 14]، ومن في قوله تعالى: {ألا يعْلمُ منْ خلق} أجازوا فيها أن تكون فاعل يعلم، وهو الله تعالى، أي إن الذي خلق يعلم ما خلق ومنه ما في الصدور.
وأجازوا أن تكون مفعول والفاعل ضمير مستتر في الفعل يعلم، ذكرهما القرطبي وأبو حيان، وهو واضح ومحتمل.
ولكن الذي تشهد له النصوص أنها مفعول كما في قوله: {إِنّهُ بِكُلِّ شيْءٍ علِيمٌ} [الشورى: 12]، {يعْلمُ خآئِنة الأعين وما تُخْفِي الصدور} [غافر: 19].
وقوله: {والله خلقكُمْ وما تعْملُون} [الصافات: 96]، ومن أعمالهم ما يسرون، وما يجهرون. والعلم عند الله تعالى.
{هُو الّذِي جعل لكُمُ الْأرْض ذلُولا فامْشُوا فِي مناكِبِها وكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وإِليْهِ النُّشُورُ (15)}
الذلول فعول بمعنى مفعول، وهو مبالغة في الذل.
تقول: دابة ذلول بينة الذل، وقيل في معنى تذليل الأرض عدة أقوال لا تنافي بينها، ومجموعها دائر على تمكين الانتفاع منها عن تسهيل الاستقرار عليها وتثبيتها بالجبال، كقوله تعالى: {والجبال أرْساها متاعا لّكُمْ ولأنْعامِكُمْ} [النازعات: 32- 33].
ومن إمكان الزرع فيها كقوله: {فأنبتْنا فِيها حبّا وعِنبا وقضْبا وزيْتُونا ونخْلا وحدآئِق غُلْبا وفاكِهة وأبّا مّتاعا لّكُمْ ولأنْعامِكُمْ} [عبس: 27- 32]، وقد جمع أكثرها في قوله: تعالى: {ألمْ نجْعلِ الأرض كِفاتا أحْياء وأمْواتا وجعلْنا فِيها رواسِي شامِخاتٍ وأسْقيْناكُم مّاء فُراتا} [المرسلات: 25- 27].
وكنت أسمع الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول في هذه الآية: إنها من تسخير الله تعالى للأرض أن جعلها كفاتا للإنسان في حياته بتسهيل معيشته منها وحياته على ظهرها، فإذا مات كانت له أيضا كفاتا بدفنه فيها.
ويقول: لو شاء الله لجعلها حديدا ونحاسا فلا يستطيع الإنسان أن يحرث فيها ولا يحفر ولا يبني، وإذا مات لا يجد مدفنا فيها.
ومما يشير إلى هذه المعاني كلها قوله تعالى: {فامشوا فِي مناكِبِها وكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} لترتبه على ما قبله بالفاء، أي بسبب تذليلها بتيسير المشي في أرجائها، وطلب الرزق في أنحائها بالتسبب فيها من زراعة وصناعة وتجارة إلخ.
والأمر في قوله تعالى: {فامشوا فِي مناكِبِها وكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} للإباحة. ولكن التقديم لهذا الأمر بقوله تعالى: {هُو الذي جعل لكُمُ الأرض ذلُولا} فيه امتنان من الله تعالى على خلقه مما يشعر أن في هذا الأمر مع الإباحة توجيها وحثا للأمة على السعي والعمل والجد، والمشي في مناكب الأرض من كل جانب لتسخيرها وتذليلها، مما يجعل الأمة أحق بها من غيرها.
كما قال تعالى: {ألمْ تر أنّ الله سخّر لكُم مّا فِي الأرض والفلك تجْرِي فِي البحر بِأمْرِهِ} [الحج: 65].
وفي قوله: {وسخّر لكُمْ مّا فِي السماوات وما فِي الأرض جمِيعا مِّنْهُ} [الجاثية: 13] وغير ذلك من الآيات.
ومن رأى هذا التسخير اعترف لله بالفضل والقيام لله بالحمد، وتقديم الشرك كما قال تعالى: {والبدن جعلْناها لكُمْ مِّن شعائِرِ الله لكُمْ فِيها خيْرٌ فاذكروا اسم الله عليْها صوآفّ فإِذا وجبتْ جُنُوبُها فكُلُواْ مِنْها وأطْعِمُواْ القانع والمعتر كذلك سخّرْناها لكُمْ لعلّكُمْ تشْكُرُون} [الحج: 36].
وقوله: {والذي خلق الأزواج كُلّها وجعل لكُمْ مِّن الفلك والأنعام ما ترْكبُون لِتسْتوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمّ تذْكُرُواْ نِعْمة ربِّكُمْ إِذا استويتم عليْهِ وتقولواْ سُبْحان الذي سخّر لنا هذا وما كُنّا لهُ مُقْرِنِين وإِنّآ إلى ربِّنا لمُنقلِبُون} [الزخرف: 12- 14].
أي مع شكر النعمة الاتعاظ والعبر والاستدلال على كمال القدرة.
ومنها المعاد والمنقلب إلى الله تعالى، فقوله: {وإِليْهِ النشور} بعد المشي في مناكب الأرض وتطلب الرزق وما يتضمن من النظر والتأمل في مسببات الأسباب وتسخير الله لها، كقوله تعالى: {وإِنّآ إلى ربِّنا لمُنقلِبُون} [الزخرف: 14] بعد ذكر {خلق الأزواج كُلّها} [الزخرف: 12] أي الأصناف وتسخير الفلك والأنعام والبحر والبر فيه ضمنا إثبات القدرة على البعث، فيكون المشي في مناكب الأرض واستخدام مناكبها واستغلال ثرواتها والانتفاع من خيراتها لا لطلب الرزق وحده، وإلا لكان يمكن سوقه إليهم، ولكن للأخذ بالأسباب أولا، وللنظر في المسببات والعبرة بالمخلوقات والتزود لما بعد الممات، كما في آية الجمعة: {فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فضْلِ الله واذكروا الله كثِيرا لّعلّكُمْ تُفْلِحُون} [الجمعة: 10].
وعليه، فقد وضع القرآن الأمة الإسلامية في أعز مواضع الغنى، والاستغناء والاستثمار والإنتاج، فما نقص عليها من أمور دنياها إلا بقدر ما قصرت هي في القيام بهذا العمل وأضاعت من حقها في هذا الوجود.
وقد قال النووي في مقدمة المجموع: إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجياتها حتى الإبرة لتستغني عن غيرها، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج، وهذا هو واقع العالم اليوم، إذ القدرة الإنتاجية هي المتحكمة وذات السيادة الدولية.
وقد أعطى الله العالم الإسلامي الأولية في هذا كله، فعليهم أن يحتلو مكانهم ويحافظوا على مكانتهم ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا. وبالله التوفيق.
{أأمِنْتُمْ منْ فِي السّماءِ أنْ يخْسِف بِكُمُ الْأرْض فإِذا هِي تمُورُ (16)}
ذكر أبو حيان قراءة {ءأمِنتُم} عدة قراءات من تحقيق الهمزتين، ومن تسهيل الثانية ومن إدخال ألف بينهما وغير ذلك، والخسف ذهابها سفلا، كما خسف بقارون، والمور الحركة المضطربة أو الحركة بسرعة، وقد ثبتها تعالى بالجبال أوتادا كما قال: {والجبال أرْساها متاعا لّكُمْ ولأنْعامِكُمْ} [النازعات: 32- 33]، ومن السماء. قال ابن جرير: هو الله تعالى اهـ.
وعزاه القرطبي لابن عباس، ويشهد لما قاله: ما جاء بعده من خسف الأرض وإرسال الحاصب، فإنه لا يقدر عليه إلا الله، كما أنه ظاهر النص، وبهذا يرد على الكسائي فيما ذهب إليه ومن تبعه عليه كأبي حيان، إذا قالوا: إنه على تقدير محذوف من قبيل المجاز، ومجازه عندهم أن ملكوته في السماء أي على حذف مضاف وملكوته في كل شيء، ولكن خص السماء بالذكر، لأنها مسكن ملائكته، وثم عزته وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها تتنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونهيه. إلخ.
وقيل: هو جبريل لأنه الموكل بالخسف، وقيل: إنه مجاراة لهم في معتقدهم بأن الله في السماء، وهذه الأقوال مبناها على نفي صفة العلو لله تعالى، وفرارا من التشبيه في نظرهم، ولكن ما عليه السلف خلاف ما ذهبوا إليه، ومعتقد السلف هو طبق ما قاله ابن جرير لحديث الجارية: «أين الله؟ قالت في السماء، قال: اعتقها فإنها مؤمنة» ولعدة آيات في هذا المعنى.
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذا المبحث بأوسع وأوضح ما يمكن مما لم يدع لبسا ولا يترك شبهة، ولا يستغني عنه مسلم عالما كان أو متعلما، فالعالم يأخذ منه منهج التعليم السليم وأسلوب البيان الحكيم، والمتعلم يأخذ منه ما يجب عليه من معتقد قويم واضح جلي سليم.
وقد يقال: إن معنى في هو الظرفية، فنجعل السماء ظرفا لله تعالى، وهذا يقتضي التشبيه بالمتحيز.
فيقال: إنه سبحانه منزه عن الظرفية بالمعنى المعروف والمنصوص في حق المخلوق.
وقد دلت النصوص من السنة على نفي ذلك عنه تعالى واستحالته عقلا عليه سبحانه في حديث: «ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة أو دراهم في ترس، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة، وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل في كف أحدكم» فانتفت ظرفية السماء له سبحانه على المعروف لنا، ولأنه سبحانه مستو على عرشه.
وفيما قدمه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في هذا المبحث شفاء وغناء، ولله الحمد والمنة. قال القرطبي: إن في السماء بمعنى فوق السماء كقوله: {فسِيحُواْ فِي الأرض} [التوبة: 2] أي فوقها لا بالمماسة والتحيز.
وقيل: في بمعنى على كقوله: {ولأُصلِّبنّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي عليها إلى أن قال: والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة مشيرة إلى العلو لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند، اولمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ووصفه بالعلو اه.
وهذا الذي ذكره هو عين مذهب السلف، وقد ذكر كلاما آخره فيه التأويل وفيه التنزيه.
{أولمْ يروْا إِلى الطّيْرِ فوْقهُمْ صافّاتٍ ويقْبِضْن ما يُمْسِكُهُنّ إِلّا الرّحْمنُ إِنّهُ بِكُلِّ شيْءٍ بصِيرٌ (19)}
الطير صافات، أي مادات أجنحتها. ويقبضن: أي يضمنها إلى أجسامها.
قال أبو حيان: عطف بالفعل ويقبضن على الاسم، صافات، ولم يعطف باسم قابضات، لأن الأصل في الطيران هو بسط الجناح، والقبض طارئ، وهذا الذي قاله أبو حيان: جار على القاعدة عندهم من أن الاسم للدوام والثبوت، والفعل للتجدد والحدوث، فالحركة الدائمة في الطيران هي صف الجناح، والجديد عليه هو القبض.
وقوله تعالى: {يُمْسِكُهُنّ إِلاّ الرحمن} دليل على قدرته تعالى وآية لخلقه، كما في قوله تعالى: {ألمْ يروْاْ إلى الطير مُسخّراتٍ فِي جوِّ السماء ما يُمْسِكُهُنّ إِلاّ الله إِنّ فِي ذلك لآياتٍ لِّقوْمٍ يُؤْمِنُون} [النحل: 79].
فهي آية على القدرة، وقد جاء في آيات أخرى أنه تعالى هو الذي يمسك السماوات والأرض بقدرته جل وعلا، كما في قوله تعالى: {إِنّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أن تزُولا ولئِن زالتآ إِنْ أمْسكهُما مِنْ أحدٍ مِّن بعْدِهِ إِنّهُ كان حلِيما غفُورا} [فاطر: 41].
فهو سبحانه ممسكهما بقدرته تعالى عن أن تزولا، ولو قدر فرضا زوالهما لا يقدر على إمساكهما إلا هو وكما في قوله: {ألمْ تر أنّ الله سخّر لكُم مّا فِي الأرض والفلك تجْرِي فِي البحر بِأمْرِهِ ويُمْسِكُ السماء أن تقع على الأرض إِلاّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65].
تنبيه:
ولعل مما يستدعي الانتباه توجيه النظر إلى الطير في الهواء صافات. ويقبض، ك ما يمسكهن إلا الرحمن، بعد التخويف بخسف الأرض بأن معلقة في الهواء كتعلق الطير المشاهد إليكم ما يمسكها إلا الله، وإيقاع اخسف بها، كإسقاط الطير من الهواء، لأن الجميع ما يمسكه إلا الله، وهو القادر على الخسف بها، وعلى إسقاط الطير.
قوله تعالى: {قُلْ أرأيْتُمْ إِنْ أصْبح مآؤُكُمْ غوْرا فمن يأْتِيكُمْ بِماءٍ مّعِينٍ}.
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه عند وقله تعالى: {وأنزلْنا مِن السماء ماء بِقدرٍ فأسْكنّاهُ فِي الأرض وإِنّا على ذهابٍ بِهِ لقادِرُون} [المؤمنون: 18] في سورة المؤمنون. اهـ.